مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام
تأليف الإمام/ أبي عبد الله محمد بن موسى بن النعمان المزالي المراكشي
تحقيق الشيخ حسين محمد علي شكري
تأليف الإمام/ أبي عبد الله محمد بن موسى بن النعمان المزالي المراكشي
تحقيق الشيخ حسين محمد علي شكري
فائدة
استحب فقهاء المذاهب الأربعة جميعًا تلاوةَ هذه الآية الكريمة عند زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، واستدلوا بها على مشروعية طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند زيارة قبره الشريف، وأن يخاطبه الزائر بقوله: "جئتك مستغفرًا من ذنبي، مستشفعًا بك إلى ربي"، وهذا استغاثة صريحة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الاستشفاع: طلب الشفاعة، والشفاعة من جملة الغوث، بل هي أعظمه، فالاستشفاع استغاثة بلا شك. واستشهدوا في ذلك بقصة العتبي قال: كنت جالسًا عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء أعرابي فقال: "السلام عليك يا رسول الله! سمعت الله تعالى يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا، وقد جئتك مستغفرًا من ذنوبي، مُستشفِعًا بك إلى ربي"، ثم أنشأ يقول:
يا خير مَن دُفِنَتْ بالقاع أعظُمُه فطاب مِن طِيبِهِنَّ القاعُ والأكَمُ
نفسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُه فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرمُ
قال: ثم انصرف، فحملتني عيناي؛ فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم، فقال لي: "يا عتبي! الحق الأعرابي فبشره أن الله تعالى قد غفر له".
وممن ذكر هذه القصة من العلماء مستشهدًا بها على ذلك: الإمام النسفي، والكمال بن الهمام في "فتح القدير"، والشرنبلالي في "نور الإيضاح" من الحنفية. والقرطبي في "تفسيره"، والقاضي عياض في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم"، والشهاب القرافي في "الذخيرة"، والثعالبي في "تفسيره"، والزرقاني، والشيخ العدوي الحمزاوي في "كنز المطالب" من المالكية.والحافظ البيهقي في "شعب الإيمان" ونقله عن القاضيين الشافعيين الماوردي وأبي الطيب، وشيخ الشافعية في زمنه أبو منصور الصباغ في كتابه "الشامل"، والإمام النووي في "الإيضاح في المناسك" و"المجموع"، والإمام التقي السبكي في "شفاء السقام"، وابن كثير في "تفسيره" و"البداية والنهاية"، والتقي الحصني في "دفع شُبَهِ مَن شَبَّه وتمرَّد"، وابن الملقن في "غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم"، والسيوطي في "الدر المنثور"، والقسطلاني في "المواهب اللدنية"، وابن حجر الهيتمي في "الجوهر المنظم"، والجاوي في "نهاية الزين" من الشافعية. والإمام عبد القادر الجيلاني في كتاب "الغُنْيَة"، وابن الجوزي في "المنتظم"، وابن قدامة المقدسي في "المغني"، وأبو الفرج ابن قدامة في "الشرح الكبير"، وأبو عبد الله السمري في "المستوعب"، وابن مفلح في "المبدع"، والبهوتي في "كشّاف القناع"،
حديث الأعمى الذي علمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي قَدْ تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِه لِتُقْضَى لِي، اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ» رواه الترمذي وابن ماجه والنسائي وصححه جمع من الحفاظ، وفي بعض رواياته أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «وَإِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ فَمِثْلُ ذَلِكَ» ، وعند الطبراني وغيره أن راوي الحديث عثمان بن حنيف رضي الله علَّم هذا الدعاء لمن طلب منه التوسط له في حاجة عند عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته، وفي ذلك استغاثة صريحة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.وأما ما قيل مِن أن الأعمى صوَّر صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قلبه وخاطبها وناداها كما يخاطب الإنسان من يتصوره ممن يحبه أو يبغضه وإن لم يكن حاضرًا: فمردود بأنه إذا جاز نداء الصورة جاز نداء الذات من باب أولى؛ لأن الصورة وهمية خيالية والذات محققة، وإذا كان المُدَّعَى أن الطلب من الذات حرامٌ لعدم قدرتها فكيف يجوز الطلب من الصورة مع أنها أشد عجزًا.
وحديث الخروج إلى المسجد للصلاة
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ؛ فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، خَرَجْتُ اتِّقَاءَ سُخْطِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُنْقِذَنِي مِنَ النَّارِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ» رواه أحمد وابن ماجه وابن خزيمة، وهو حديث صحيح؛ صححه الحافظ البغوي، والحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ المنذري، والحافظ الدمياطي، والحافظ العراقي، والحافظ ابن حجر العسقلاني.
والسائلون لله تعالى الذين توسل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بحقهم أعمُّ من أن يكونوا أحياءً أو منتقلين، وهذا يدل على جواز التوسل بالمخلوق سواء أكان حيًّا أو مُتَوَفًّى، كما أن في التوسل بالعمل الصالح (وهو المشي إلى الصلاة) دليلًا آخر على جواز التوسل إلى الله في الدعاء بالمخلوق، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعظم المخلوقين قدرًا وأعلاهم شأنًا، فالتوسل به أَوْلَى.
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند موت فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنهما
وهو حديث طويل، وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللَّهُ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، اغْفِرْ لِأُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ وَلَقِّنْهَا حُجَّتَهَا وَوَسِّعْ عَلَيْهَا مَدْخَلَهَا بِحَقِّ نَبِيِّكَ وَالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِي، فَإِنَّكَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» رواه الطبراني في الأوسط والكبير وأبو نعيم في الحلية وغيرهما.
وكذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا أَضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ أَحَدُكُمْ عَوْنًا وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ، فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَغِيثُونِي، يَا عِبَادَ اللَّهِ أَغِيثُونِي، فَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا نَرَاهُمْ» أخرجه الطبراني وأبو يعلى، ونحوه عند البزار من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولفظه: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ سِوَى الْحَفَظَةِ يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجِرِ، فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَلْيُنَادِ: أَعِينُوا عِبَادَ اللَّهِ» رواه الطبراني، وحسنه الحافظ ابن حجر في أمالي الأذكار، قال الطبراني عقب رواية الحديث: وَقَدْ جرّبَ ذَلِكَ.
فهذا الحديث فيه مشروعية أن يُنادي المسلم مَن هو غائب بالنسبة له، وقد فعل ذلك إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله واستغاث بعباد الله الغائبين عنه؛ كما نقل ذلك عنه ابنه عبد الله في (المسائل، 217) ، وأسنده عنه البيهقي في (شعب الإيمان، 6/ 128) ، وعنه ابن عساكر في (تاريخ دمشق، 5/ 298) ، قال: سمعت أبي يقول: "حججت خمس حجج؛ اثنتين راكبًا، وثلاثًا ماشيًا، أو ثلاثًا راكبًا، واثنتين ماشيًا، فضللت الطريق في حجة وكنت ماشيًا، فجعلت أقول: يا عباد الله! دُلُّونِي على الطريق، قال: فلم أزل أقول ذلك حتى وقفت على الطريق"، أو كما قال أبي. وذكر هذه القصة أيضا العلّامة ابن مفلح الحنبلي تلميذ ابن تيمية في كتاب (الآداب الشرعية) .
وقال الإمام النووي في "الأذكار" في كتاب أذكار المسافر، باب ما يقول إذا انفلتت دابته (ص: 331، ط. دار الفكر) : "قلت: حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم أنه انفلتت له دابة أظنها بغلة وكان يعرف هذا الحديث، فقاله، فحبسها الله عليهم في الحال. وكنت أنا مرة مع جماعة فانفلتت منها بهيمة وعجزوا عنها، فقلته فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام" اهـ.
وأما الاحتجاج على تحريم الاستغاثة بما رواه الطبراني
كما ذكر الهيثمي في (مجمع الزوائد، 10/ 159) - من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: قوموا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّهُ لَا يُسْتَغَاثُ بِي إِنَّمَا يُسْتَغَاثُ بِاللَّهِ عزَّ وَجَلَّ» ، فهذا حديث في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف، وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (5/ 333، ط. دار طيبة) : "وهذا الحديث غريب جدًّا" اهـ، مع أن هذا الحديث لو حُمِل على ظاهره للزم منه مخالفة ما هو مُجمَع عليه من جواز الاستغاثة بالحاضر فيما يقدر عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في حياته الدنيا وكان قادرًا على إغاثتهم من هذا المنافق، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالنص على مشروعية الاستغاثة صراحةً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حديث الشفاعة المشهور في الصحيحين، ولفظه عند البخاري: «إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ» .